فضيلة بودريش.. صوت الأنثى الذي يحكي وجع الوطن وحنين الروح

عمل جديد يزين أروقة معرض الجزائر الدولي للكتاب

“طويلة الساقين والأعسر”.. حكايات ناجيات من وجع الذاكرة

“ليست الحكاية عن الخوف وحده، بل عن النساء اللواتي انتصرن عليه بصوتهن، وعن الذاكرة التي لا تموت ما دام أحد يرويها.”

ترجع الكاتبة والصحفية الجزائرية فضيلة بودريش إلى الساحة الأدبية بقوة، من خلال عملها الروائي الجديد “طويلة الساقين والأعسر”، الصادر حديثًا عن دار أمل للنشر لصاحبتها السورية أمل منذر، في تجربة تعاون جزائرية – سورية تعدّ الأولى من نوعها بين الطرفين، العمل يعيد إسم الكاتبة فضيلة بودريش إلى الواجهة ليروي تفاصيل لم يقلها أحد.

سعاد شابخ

العمل الجديد الذي سيرى النور في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2025، يمثل امتدادًا لخطّ بودريش الإبداعي الذي يجمع بين الوجدان الأنثوي والذاكرة الجماعية الجزائرية، في سرد مشوّق يتقاطع فيه الحلم مع الوجع، والواقعية مع التأمل الفلسفي في معنى الوجود والنجاة.

أربع نساء.. وأقدار تتقاطع بين الموت والذاكرة

في “طويلة الساقين والأعسر”، تمنح بودريش صوتها لنساءٍ أربع، ناجيات من الأزمة الأمنية التي هزّت الجزائر، لكنهن يهربن من ماضيهن مرتين: مرة من الموت، ومرة من الذاكرة التي تلاحقهن.

تبدأ الرواية في باريس، حيث البطلة الرئيسة تعود إلى الجزائر حاملة نعش والدتها، لتواجه ماضيًا لم تعشه، لكنه يسكنها.

من هنا تتقاطع الأصوات النسوية الأربع، لتشكّل سيمفونية من السرد المتعدد، يتبادل فيها الألم موقعه مع الأمل، فيجد القارئ نفسه أمام عملٍ يكتب فيه الخوف، لا بوصفه حدثًا، بل كحالة وجودية تعبر الزمن والذات.

بودريش لا تكتب عن النساء فحسب، بل تكتب من داخل وعيهنّ، فتجعل من صوت الأنثى ضميرًا للرواية، ومن الحكاية مرآة لوطنٍ جريح، يبحث عن خلاصه بعد أكثر من ربع قرن على الأزمة.

المرأة.. بطلة الرواية وصوتها الجمعي

في روايتها الرابعة، تمنح بودريش صوتها لنساءٍ ناجيات من “الأزمة الأمنية”، لكنهن يهربن للمرة الثانية، من الموت ومن الذاكرة معًا. أربعة أصوات نسوية تسرد الحكاية على نحو متوازٍ، تلتقي جميعها عند نقطة واحدة: المرأة ليست ضحية تمامًا، وليست ناجية تمامًا.

هي كائنٌ يقاوم بصمته، ويتعافى بالكلمة.

من خلال هذا البناء السردي الرباعي، تمكّنت الكاتبة من رسم مشهد إنسانيّ عميق، يُظهر تناقضات المرأة في علاقتها بالمجتمع، بالزمن، وبذاتها.

تبدأ الحكاية في عاصمة النور باريس وتنتهي في الجزائر، وكأنّ القدر يعيد الأبطال إلى نقطة البدء، ليواجهوا ماضيهم المعلق في ذاكرة وطنٍ لم يبرأ بعد من جراحه.

الرواية – كما تصفها صاحبتها – ليست عن الماضي فقط، بل عن الزمن بوصفه شفاءً مؤلمًا، وعن الإنسان الذي يصرّ على أن يبحث دومًا عن حياة جديدة وجميلة مهما عصفت به الأهوال.

لغة شعرية وإيقاع سردي متزن

أسلوب فضيلة بودريش، كما اعتاده قراؤها، يجمع بين اللغة الصحفية المكثفة والدفق الشعري الشفيف.

فهي تكتب بوعي الكاتبة المتمرّسة، وبقلب الأنثى التي تضع مشاعرها على الورق دون خوف.

تستحضر في أعمالها البنية النفسية للشخصيات بتفاصيل دقيقة، وتغوص في أعماقها دون مبالغة، مع توظيفٍ ذكيّ للزمن السردي، بحيث تتحرك الأحداث بين الماضي والحاضر في تناغم سلس.

وتبدو بودريش في “طويلة الساقين والأعسر” أكثر نضجًا من ذي قبل، إذ تمزج بين الواقعية القاسية والتأملات الوجودية، لتخلق عالماً أدبياً تتقاطع فيه الذاكرة الفردية والجماعية، ويصبح السرد فعل مقاومة ضد النسيان.

من “ليل مدينة” إلى “الأخضر والرماد”.. نضج التجربة وتنوع الرؤية

فضيلة بودريش ليست مجرد روائية، بل هي صوت صحفي وأدبي نسوي مميز، استطاع أن يفرض حضوره في المشهد الثقافي الجزائري والعربي على حدّ سواء.

عرفها القراء أول مرة عبر روايتها “ليل مدينة”، التي صدرت في العراق ضمن مشروع “بغداد عاصمة الثقافة العربية”، حيث قدّمت فيها بداية متميزة لمسيرتها الأدبية، ووضعت لبنات أسلوبها الواقعي – الفلسفي الذي يميّز كتاباتها لاحقًا.

ثم جاءت “شواطئ الثلج” لتكشف عن انتقالة نوعية في مسارها، حيث تطرقت من خلالها إلى الآثار النفسية والاجتماعية للأزمة الأمنية في الجزائر، من خلال شخصية “فرح” الطبيبة النفسية التي تبحث عن الحقيقة والبراءة وسط عالمٍ يعجّ بالتناقضات.

أما في روايتها “الأخضر والرماد”، فقد غاصت بودريش في التاريخ الوطني، عائدة إلى فترة الاستعمار الفرنسي، لتكتب عن المقاومة والمجد والدماء التي أنبتت الحرية، من خلال شخصيات متناقضة في انتمائها، لكنها متحدة في إنسانيتها.

وبهذا العمل، وضعت بودريش نفسها في مصاف الكتّاب الذين يزاوجون بين السرد الأدبي والتوثيق التاريخي، بأسلوبٍ رشيقٍ لا يخلو من الحسّ الإنساني العميق.

الكتابة كفعل مقاومة .. تحرر ومصالحة

في عالم بودريش، الكتابة ليست ملاذًا فحسب، بل فعل تحررٍ من القيود والذاكرة والخوف.

نساءها يكتبن ليُشفين، ويستعدن وجودهن بالكلمة.

الكاتبة لا تقدّم المرأة كرمزٍ للضعف، بل كقوةٍ خفية قادرة على إعادة بناء الحياة رغم الخراب.

وفي ذلك تتقاطع تجربتها مع تجارب الأصوات النسوية الجزائرية والعربية التي ترى في الأدب أداة للمقاومة الجمالية والإنسانية.

هي تؤمن أن “القلم يمكنه أن يشفي ما عجز الزمن عن مداواته”، وأن الرواية ليست تأريخًا للحدث، بل بحثًا عن المعنى الإنساني في قلب المأساة.

تتميز فضيلة بودريش بقدرتها على جعل الكتابة فعلًا للمقاومة والتطهير في آن واحد.

فهي لا تكتب لتروي فقط، بل لتُشفى، ولتمنح القارئ فرصةً للتأمل في ما عاشه من صمتٍ وجراح.

نساءها لسن بطلات خارقات، بل وجوه عادية لألمٍ استثنائي، وفي هذا تكمن قوة قلمها.

تكتب بودريش وكأنها تستعيد الوطن عبر ذاكرة النساء، وتستعيد الأمل عبر الحكاية، لأن الحكاية – كما تقول – “لا تموت ما دام هناك من يرويها”.

قلمٌ يحاور الواقع بجماليات الأدب

لم تنفصل بودريش يومًا عن خلفيتها الصحفية، بل حملت معها حسّ الملاحظة ودقّة التفاصيل إلى عالم الرواية، تكتب بعين الصحفية التي ترصد الواقع، وبقلب الكاتبة التي تؤمن أن وراء كل حدثٍ إنسانيٍّ قصة تستحق أن تُروى.

توازن في نصوصها بين التوثيق والتخييل، وبين شهادة الواقع وتأمل الوجدان، لتقدّم نموذجًا أدبيًا يُعيد للأدب وظيفته الإنسانية والوجدانية في آن واحد.

بـ”طويلة الساقين والأعسر”، تؤكد فضيلة بودريش مجددًا أنها من أبرز الأصوات السردية النسوية في الجزائر، ومن القلائل اللواتي استطعن الجمع بين المهنية الصحفية والعمق الأدبي.

روايتها الجديدة ليست مجرد حكاية عن ناجيات من الحرب، بل هي مرآة لوطنٍ بأكمله، عاش ألمه بصمت، ويبحث اليوم عن خلاصه عبر الكلمة.

إنها كتابة امرأة تعرف أن القلم أقوى من الفاجعة، وأن الصوت الأنثوي حين يخرج من تحت الرماد، يكون دائمًا أصدق من الصمت.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *